"فليحيا الإله الكامل، الذي في الأمواه، إنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، إنه يسمح لكل امريء أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر"، ترنيمة دوّنها المصري القديم في نصوصه الأدبية تبرز قدر عرفانه لنهر النيل، جاعلا منه الإله الخالق لمصر، واهب الحياة والخُلد لها منذ القدم.
أدرك المصريون أهمية النيل منذ عصور موغلة في القدم، فاجتهدوا في ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر وتنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادي، ولم يبالغ العالم الفرنسي جاك فاندييه في دراسته "المجاعة في مصر القديمة" عندما أشار إلى أن "النيل هو الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة المادية والاجتماعية في مصر".
البداية
توافرت مقومات الحياة البشرية في منطقة شمال أفريقيا خلال العصر الحجري القديم، نظرا لنمو الأعشاب والأشجار واستيطان قطعان الغزلان والأبقار والأغنام، فاعتمد الإنسان على صيدها باستخدام آلات بدائية عُثر على كثير منها في صحراء مصر الشرقية والغربية.
بيد أن التغيرات المناخية دفعت السكان نحو الأنهار، نتيجة الجفاف وندرة الأمطار، فظهر نمط جديد من المجتمعات في مصر، وهو شكل من أشكال الحياة البدائية التي ربما تعود جذورها وأقدم مفاهيمها وآلهتها إلى مستهل العصر الحجري الحديث منذ حوالي عام 5800 قبل الميلاد، لاسيما في مناطق الفيوم ومرمدة والعُمَري في مصر الوسطى والشمالية، والهمامية والبداري وتاسا في الوجه القبلي جنوبا.
أطلق المصريون القدماء على نهر النيل في اللغة المصرية القديمة "إيترو عا" بمعنى (النهر العظيم)، وتشير الأصول اللغوية لكلمة النيل إلى أنها من أصل يوناني، "نيلوس"، بيد أن آخرين تحدثوا عن أصول فينيقية للكلمة اشتقت من الكلمة السامية "نهل" بمعنى (مجرى أو نهر).
وذهب المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي إلى أبعد من ذلك حين أشار إلى إن النيل أُطلق عليه هذا الاسم تخليدا لذكرى ملك يدعى "نيلوس" اعتلى عرش البلاد وحفر الترع والقنوات فأطلق المصريون اسمه على نهرهم، وتُستخدم "نيلوس" كاسم علم مذكر بحسب عقد بيع مدوّن على بردية يعود إلى العصر الروماني، يحتفظ به المتحف المصري، بين رجل يدعى "نيلوس" وآخر يدعى "إسيدوروس".
ويرى العالم المصري رمضان عبده، في دراسته الموسوعية "حضارة مصر القديمة"، ضمن إصدارات وزارة الآثار المصرية، أن كلمة النيل مشتقة من أصل مصري صميم من العبارة "نا إيترو" والتي تعني (النهر ذو الفروع)، كما أطلق المصريون على مجرى النهر اسم "حبت إنت إيترو" (مجرى النهر)، وأطلقوا على فروع النيل في أرض مصر "إيترو نوكيمت" (فروع الأرض السوداء).
تشير الوثائق التاريخية إلى حدوث اتصال ما بين المصريين القدماء ومناطق تقع في جنوب مصر، بلاد "كوش" و"يام" و"بونت"، الأمر الذي يرجح بعض دراية للمصريين بإقليم بحر الغزال، أحد روافد النيل في جنوب السودان، منذ عصور الدولة القديمة، ونتيجة حرص المصريين على التوغل في النوبة والسودان، ظهر رحّالة ومستكشفون في الأسرة السادسة معظمهم من أمراء أسوان جنوبي مصر.
نظم حاكم الجنوب ويدعى "حرخوف" أربع حملات استكشافية إلى أفريقيا بناء على أوامر من الملكين "مر-إن-رع" و"بيبي الثاني" حوالي 2200 قبل الميلاد، وحرص "حرخوف" على تسجيل وقائع رحلاته في مقبرته في أسوان، كما في هذا المقتطف من نص كامل نقلته إلى الفرنسية عن اللغة المصرية القديمة العالمة كلير لالويت في دراستها "الفراعنة في مملكة مصر زمن الملوك الآلهة":
No comments:
Post a Comment